فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (17):

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الإمام، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي من الوراء، {وعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أي من جهة اليمين، {وعَن شَمَآئِلِهِمْ} أي من جهة اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعاً هو {الدار الآخرة} وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث. ويحاول أن يجعل الإِنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16-17].
ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضاً لا يجعل للشيطان منفذاً فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولاً؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإِعادة بالتأكيد أهون من البداية؛ لأنّه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه- سبحانه- عندما يبيّن للناس أن الإِعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلاً إلى إنكاره، وإلاّ فالله- جل شأنه- تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا- سبحانه- بتمام إحاطة علمه فيقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4].
أي أن لكل واحدٍ كتاباً مكتوباً فيه كل عناصره وأجزائه.
والشيطان- أيضاً- يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبًّا كبيراً، وقد كبرت سنّه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقًّا فأمِّن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمِّن حياتهم في جهة ثانية. {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
ولماذا لم يأت الشيطان للإِنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة. فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.
ويقول تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ {عَنْ أَيْمَانِهِمْ} و{عَن شَمَآئِلِهِمْ} ولم يأت ب (على) لأن (على) فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبداً؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلاً للآية: {... وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ اخرج مِنْهَا...}.

.تفسير الآية رقم (18):

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفاً، فسبحانه القائل: {... إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76].
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً...} [الأعراف: 18].
وقال له الحق من قبل: {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13].
إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضاً تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحباً للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه: {... لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].
وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدَّها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعاً يؤمنون به؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعاً؛ فإنه- جل شأنه- قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعاً، وإن كفروا جميعاً فقد أعدّ النار لهم جميعاً؛ تأكيداً لقوله الحق: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11].
وقوله الحق: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَآءَادَمُ اسكن...}.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس فيقول: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة}.
كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين: كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟. وكيف يخرج منها؟. وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها؟. وهؤلاء العلماء الذي قالوا: إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة (جنة)؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة (غلبة الاستعمال)، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفاً، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة؛ لأنها هي التي تُعتبر جنة بحق، لكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولاً أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معانٍ متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
مثال ذلك كلمة (الحج) فأنت ساعة تسمع كلمة (الحج) تقول: هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن (الحج) في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول: حججت إليه. فلما جاء الإسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام للنسك، وكذلك كلمة (الصلاة) إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى: {وصلِّ عليهم} أي ادع لهم، ولما جاء الإسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنىً اصطلاحيًّا أن هذا يكون تركاً لمعناه الأصلي؟. لا؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة (صلاة) أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة (الجنة) ساعة تُطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول: المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الإِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإِنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضاً: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266].
وكذلك يقول سبحانه: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32].
وقوله الحق: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].
وأقول: إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يُعْلمنا من لدنه ويقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30].
إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول: لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه: ما دام قد جعله الله خلفية في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه؟!
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في (افعل) و(لا تفعل)؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحاً؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه (افعل) و(لا تفعل) لا يفسد به المجتمع. إذن ف (افعل) و(لا تفعل) هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟. لا، فمادام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في (افعل)، و(لا تفعل) ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال (افعل) إلى مجال (لا تفعل)، وكذلك يحاول أن يزين لك (أن تفعل) ما هو في مجال (لا تفعل) فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجاً يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقى المنهج تلقيًّا نظريًّا، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريباً على المهمة في (افعل) و(لا تفعل). وحذره من العقبات التي تعترض (افعل)؛ حتى لا تجيء في منطقة (لا تفعل)، وكذلك من العقبات في منطقة (لا تفعل) حتى لا تجيء في منطقة (افعل)، واختار له مكاناً فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبداً في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه هي الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها، ولكن لا تقرب هذه الشجرة.
(كل) هذا هو الأمر، و(لا تقرب) هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه (إبليس)؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله- سبحانه- وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فلا فضلات تتعبه، ولا ينفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة... إلخ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإِعداد.
إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم- كما علمنا- مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمراً متمثلاً في {فَكُلاَ}، ونهياً متمثلاً في {وَلاَ تَقْرَبَا}، لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} لأن القِربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين: الرمز الأول: ل (افعل)، والرمز الثاني: ل (لا تفعل)، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل: {... فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30].
ولم يقل: (لا تعبدوا الأوثان)، بل قال: (فاجتنبوا)، والشأن في (الخمر) أيضاً جاء بالاجتناب. لكنّ بعضاً من السطحيين يقولون: لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول: الاجتناب أقوى من المنع ومن التحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. {... وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [الأعراف: 19].
والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} اي لا تدخلا في اطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحداً، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذاباً أليماً في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.
ويقول الحق بعد ذلك: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان...}.